للهِ على النَّاس نعمتان لاتطيبُ بدونِهما الحياةُ ..
ولايهنأ بغيرهما عيشٌ : النسيانُ والأملُ .
بالنسيان تندملُ الجفونُ القريحة ..
وبالأمل تلتئمُ القلوبُ الجريحة ..
فالله سلّط الألم على الروح ، هو الرؤوف الذي سلط الزمن على الألم..
فالزمن لاينفك يسحبُ ذيول الايام والليالي حتى لايبقى من الغائبِ إلا صورة لاتنطق .. ولايبقى من الجرح الا ندبة لاتُحس !
كنتُ - وقرصُ الشمس غريقٌ الى نصفِه وراء النخيل الذاهبِ في الفضاءِ كأنه الأهداب لأجفان السماء ..
وماءُ النيل على صفائه وزُرقته .. وهواءُ المساءِ على جماله ورقته ..
وعصافيرُ الخريفِ تبحث في أغصان التين بأرجلها ومناقيرها ..
كنتُ أجلسُ على حافّةِ الجداول العشيبةِ النضرة أنظرُ الى تارة يحملُ معه ورقة من أوراق الشجر ..
الماءِ وهو يغورُ مُبطئا تحتَ عقدِ القنطرةِ
وتارة يكسحُ عشا خاليا من أعشاش الطيور رمى به الهواء من أعالى الدوحةِ الفينانة..
إذ أرى على حين بغتةٍ جُثَّةَ طير غريق قد حملها الماءُ حتى غيَّبها رويدا رويدا تحت القنطرة .
وما كادت تتوارى جثةُ الطائر حتى أقبل طائرٌ آخر راح يقع ويقوم .. ويئن ويحوم .. ويضربُ بجناحيه أحناء القنطرة .. فتبادلنا النظرَ من غير عَمْدٍ ثم افترقنا وكلانا لايستطيع معاودة النظر الى أخيه !!
في المساءِ ودّعَ الطائرُ أخاه الغريق .. وماكادَ يلوح الضوءُ الشّاحبُ ويصيحُ الديكُ المؤذنُ حتى كان هذا الطائرُ يُغرّد للصباح ويصدح !
والشاةُ يُذبح حَمَلُها في الحظيرة وهي في المروج تثغو وتمرح ..
والقلبُ يُقطعُ من القلبِ .. والروحُ تُنزعُ من الروح..
ثم يعيشُ الوالدُ بعدَ ولده .. وتعيش الام بعد وحيدها .. كما يعيش الروضُ الذّبلُ في انتظار الربيع .. والروض الناضب في ارتقاب المطر !
ماذا كان يفعل الأسى بالقلوب الوالهة إذا لم يمحُ النسيانُ من الذهن الأمل الذي فات أو الحبيب الذي مات !
وماذا كان يفعل اليأسُ في النفوس المكروبة إذا لم يفتح الأملُ أمامها فُرجةً في الأفق ومساحة من الغد .
ياويلتا للمريض يرى ان مرضه ينتهي بإنتهاء الأجل ..
ويا بؤسا للحياة إن لم يقل الانسانُ :
إن كان في اليوم قنوط ففي الغدِ رجاء ..
وإن لم أرث الأرضَ فسأرث السماء ..